Tuesday, April 16, 2013

خرافات إيسوب حكمة الحيوان

لأن الخرافات أو الأساطير المنسوبة الى «ايسوب» تتسم بطابع إنساني «يونيفرسالي» بمعنى الشمول والإتساق عبر اختلاف المكان وتواتر الزمان فقد حار المؤرخون والنقاد في أمر شخصية ايسوب نفسها.. منهم من ذهب الى أنه شخصية خرافية (شأن الحكايات والأساطير المنسوبة الى اسمه) وأن ثقافة الإغريق لم تشهد فردا بعينه اسمه ايسوب .


 


بل ان الحكائين اصطنعوا الاسم كي ينسبوا اليه أساطير وخرافات وحكايات ومرويات ولدرجة أن تناهى الينا المثل الغربي المتواتر الذي يصف أيا من أحاديث الخرافة أو الإبتداع – الانتحال كما يسمى في آداب العربية- بأنه «حديث ايسوب».


 


وربما يصدق الأمر نفسه على ما ذهب اليه بعض النقاد والمؤرخين من أن هوميروس صاحب الإلياذة هو شخصية خرافية.. أو أن قيس بن الملوح صاحب ليلى العامرية هو بدوره شخصية خرافية اصطنعتها أخيلة الشعراء والمحبين لينسبوا اليها كل ما تجود به قرائحهم أو خوالج نفوسهم أو الاوهام التي تراودهم بين حين وحين.


 


من ناحية أخرى يقول مؤرخ اليونان القديم هيرودوتس ان ايسوب عاش في القرن السادس قبل الميلاد وأنه كان عبدا أعتقه سيده فكان أن جاب الأمصار والأقطار يسدي المشورة وينوه بالحكمة ويبدع الحكايات.أما بلونارك، مؤرخ الرومان فيذهب الى أن ايسوب عاش في القرن الميلادي الأول وأنه كان مستشارا لأحد ملوك الإغريق.


 


وسواء كان ايسوب شخصية عاشت في أرض الواقع أو عششت في نسج الخيال.. أو كانت ضرورة فنية لجأ اليها الحكاؤون والشعراء.. فقد فازت البشرية في كل حال بتلك المجموعة من سلسلة الأدب الإنساني الرفيع التي حملت اسم «الخرافات».


 


بعد أن نشرها فايدروس الروماني باللاتينية في القرن الميلادي الأول وكانت هي النص – العمدة الذي اعتمد عليه الفرنسي لافونتين الذي نقل هذه الحكايات شعرا فرنسيا جميلا ورشيقا فكان أن قدم للعصر الحديث اسم مبدعها أو صاحبها القديم.. ايسوب.


 


* أصل الحكاية (الحكايات)


 


أمامنا ثبت يحوي 100 حكاية وحكاية من خرافات «ايسوب». هي الطبعة الأحدث والأدق والأكثر ثراء من حيث بلاغة السرد وجمال العبارة وخفة الروح.. أعدها مثقف أميركي اسمه «مونرو ليف» بعد أن تخرج في هارفارد وعمل بالصحافة الى أن نشرت له هذه الطبعة الإنجليزية في عام 1979.


 


تبدأ السلسلة بحكاية حوار أقرب الى المناظرة بين فأر الريف وفأر الحضر، وتنتهي بحوار ساخن الى حد العراك أو بالأدق المهارشة وهي ملاحم القتل بين.. الديوك.وكل حكاية لابد وأن تختتم بسطر أو سطرين يلخص – أو يلخصان – في تكثيف عميق وبليغ مغزى الحكاية وحكمة دلالتها بالنسبة لحياة البشر.


 


ها هو فأر الريف الطيب.. الهادئ القنوع يستضيف في كرم ريفي مطبوع رفيق الصبا الذي كان قد نزح الى المدينة ليعيش وسط مباهجها.. وكم حرص المضيف الريفي على أن يدخر مسبقا ما يمكن أن يدخل البهجة على ضيفه الحضري من صنوف الطعام.. حفنة من بازلاء وشريحة من لحم وقطعة من جبن.. أما صنف الحلوى فكان من بقايا تفاحة ناضجة.. لكن فأر المدينة عافت نفسه المغرورة كل هذا الطعام.. الذي رآه شديد التواضع..


 


وبكل خيلاء دعا رفيقه الى ليلة يقضيها في ركنه «الوثير» في بيت المدينة حيث كان صاحب البيت يقيم حفلا باذخا.. وقبل أن يستمتع الفأران ببقايا المائدة الفاخرة العامرة إذا بصاحب البيت يطلق كلابه الرهيبة تعيث في أرجاء المكان.. فترسل صعقات الرعب بين أوصال فأر المدينة وفأر القرية على السواء.. لكن الصديق الريفي ما لبث أن انسحب قائلا:


 


- حياتك هانئة لو كان فيها أمن أو دام فيها الرغد والهناء.. وسوف أعود أقنع بالبازلاء الجافة وبقايا الخبز الفقير.. لكن في ظل سكينة وسلام.. هنيئا لك بالمدينة وصخبها.. أما أنا فقد اخترت الريف.


 


انتهت الحكاية.. لكن العبرة تختم النص فتقول:


 


- العاقل هو من يملك ما يكفيه ويكون به سعيدا قرير العين.. سواء كان فأرا أو كان من بني البشر.


 


أما الحكاية الأخيرة فكانت عن معركة الصراع بين ديكين حول من يحكم حظيرة الدجاج ويصبح سيدها المطاع وبعد سجال عنيف.. فاز أحدهما فيما تعين على الآخر أن يزحف الى ركن المكان يلعق الجراح ويتجرع غصة الهزيمة ويفكر فيما يأتي من مستقبل الأيام.


 


أما المنتصر فلم يكذب خبرا.. نفش ريشه واحمرت أعرافه وأرسل عقيرته صياحا (من قبيل البروباجاندا) معلنا أنه الفائز الرابح المنتصر.. وأنه الأفضل والأشجع والأجمل.. وأنه الأحق بالقيادة والسيادة والريادة.. وفيما كان المهزوم يئن في همس مكسور..


 


كان المنتصر يرسل صوته مدويا في أرجاء الحظيرة ومتناهيا بأصدائه الى سائر المسالك والدروب.. الى أن سمعه نسر جارح كان يطير بحثا عن غنيمة.. فكان أن حط النسر على أرض الحظيرة واختطف الديك المنتصر ومضى محلقا الى بعيد كي يستكمل طعام الغداء.. ساعتها خرج المهزوم من مخبأه ونفض عن ريشه غبار الانكسار وتلفت من حوله يتهيأ ليكون سيد الحظيرة المطاع.


 


والعبرة – يقول ايسوب- هي:


 


- الفائزون الذين يغرهم الانتصار غالبا ما تحل بهم الخسارة في نهاية المطاف.


 


* الأفكار.. الرموز.. الدلالات


 


هي الأفكار الصادرة نفسها عن نفس حكيمة تتدبر سلوك الكائنات – البشر بالذات – وتحاول أن تسوق العبرة وتعلم الدرس من خلال وسيلتين ثبتت فعاليتهما عبر الدهور والعصور وسيلة القصة ووسيلة العبرة، يستوي في ذلك أمة الهند التي أبدعت حكايات زكليلة ودمنةس الشهيرة التي نقلها عبدالله بن المقفع (عن اللغة الفهلوية (في فارس القديمة) الى لغة عربية تدعو الى العجب والإعجاب إذ جاءت وكأنها لغة الصحافة السائغة المحددة والمباشرة التي تستمد بلاغتها من بساطتها وليس من المحسنات والزخارف اللغوية التي شاعت في الآداب الكلاسيكية في الزمن القديم.


 


وكما هو الحال في خرافات ايسوب فإن حكايات – خرافات «كليلة ودمنة» على طول رحلتها أو خطوط إمدادها ما بين الثقافات السنسكريتية في الهند الى الفهلوية عند الفرس ومن ثم الى العربية في العصر العباسي الأول تعرضت بدورها الى إضافات وتحويرات وتعديلات سواء من حيث القصّ أو من حيث العبرة ويكفي أن «كليلة ودمنة» ترجمت أكثر من 30 مرة والى نحو من 25 لغة في العالم حيث جاءت أغلبية هذه الترجمات عن اللغة العربية.


 


وليس لنا أن نتطرق الى الرموز فحكايات ايسوب قائمة أساسا على الرموز وكلها – كما ألمحنا – تحاول أن تعلم الناس من خلال الرمز ومن ثم فهي تظل سائغة ومحببة الى نفوس البشر بين جيل الطفولة وجيل الكهولة على السواء. وإذا كان الله سبحانه قد أرسل الى قابيل غرابا زليعلمهس كيف يواري جثة هابيل.. فإن الدلالة البليغة هنا تتمثل في أن الإنسان مهما علت مكانته يمكن أن يتعلم من الحيوان.


 


* في ذاكرة الإنسانية


 


لا ينفك البشر يتعلمون مما يحفل به الكون من حولهم من نماذج الكسب وإنماط السلوك.. في طفولة البشرية كان البشر يتعلمون من دورات المواسم وتعاقب الفصول وتغيرات الطبيعة.. ومما يرصدونه من أفعال الحيوان ودورات الحياة للنبات وفي نضج البشرية، ظل الناس يتعلمون من دأب النمل ونشاط النحل وأحيانا من قدرة الزرع على التطور والتكيف بوجه الآفات والأنواء.


 


ومن شأن إبداعات أدبية وفنية من طراز «خرافات ايسوب» فضلا عن ترجماتها عن لافونتين الفرنسي أو كاكستون الإنجليزي (1484) أو ليف الأميركي (1979).. أن تعيش وتستمر في وجدان البشرية بفضل عاملين هما البراءة حيث الحكاية تدور عن فصائل الحيوان فضلا عن تشغيل آلة الفكر حيث لا تكتفي الخرافات – لا عند ايسوب ولا عند كليلة ودمنة – بمجرد السرد بل تحمل القارئ أو المستمع على أن يفكر ويتأمل ويتعمق الى أن يصل الى وعي الدرس المستفاد.


 


لا عجب أيضا أن شغف بالخرافات – الحكايات نفر آخر من سادة مبدعي آدابنا العربية في العصر الحديث كان على رأسهم أمير الشعراء أحمد شوقي الذي أثبتوا له في الجزء الرابع من ديوان «الشوقيات» نحوا من 57 من الحكايات التي نقلها شوقي عن حكايات – خرافات لافونتين في شعر ساذج خفيف الدم. والمعنى أن أمير شعراء العصر الحديث بجلالة قدره.. لم يعزّ نفسه عن أن يكتب للأطفال (وربما للكبار أيضا) حكايات ختمها في الديوان بأبيات تحت عنوان «الثعلب وأمّ الذئب» تقول:


 


كان ذئب يتغدى


 


فجرت في الزور عظمْه


 


ألزمته الصوم حتى


 


فجعت في الروح جسمه


 


فأتى الثعلب يبكي


 


ويعزي فيه أمّه


 


فأجابت: يا ابن أختي


 


كل ما قد قلت حكمه


 


وأبي الغالي، ولكن


 


قولهم: مات بعظمه


 


ليته مثل أخيه


 


مات محسودا بتخمه.



Share

خرافات إيسوب حكمة الحيوان

No comments:

Post a Comment